الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***
{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)} ولما كان الوكيل في الشيء لا تصلح وكالته فيه إلا إن كان قادراً عليه بطريق من الطرق، وكان حفظهم على الهدى وعن الضلال لا يكون عليه إلا لحاضر لا يغيب ولا يعتريه نوم ولا يطرقه موت، لم تصح وكالة أحد من الخلق فيه، وكان كأنه قيل: لأنه لو وكل إليك أمرهم لضاعوا عند نومك وموتك، فدل عليه بما أدى معناه وزاد عليه من الفوائد ما يعرف بالتأمل من تشبيه الهداية بالحياة واليقظة والضلال بالموت والنوم، فكما أنه لا يقدر على الإماتة والإنامة إلا الله فكذلك لا يقدر على الهداية والإضلال إلا الله، فمن عرف هذه الدقيقة عرف سر الله في القدرة، ومن عرف السر فيه هانت عليه المصائب، فهي تسلية له صلى الله عليه وسلم، لفت القول إلى التعبير بالاسم الأعظم لاقتضاء الحال له، وأسند التوفي إليه سبحانه لأنه في بيان أنه لا يصلح للوكالة غيره أصلاً، فقال: {الله} أي الذي له مجامع الكمال، وليس لشائبة نقص إليه سبيل {يتوفى الأنفس} التي ماتت عند انقضاء آجالها، أي يفعل في وفاتها فعل من يجتهد في ذلك بأن يقبضها وافية لا يدع شيئاً منها في شيء من الجسد، وعبر عن جمع الكثرة بجمع القلة إشارة إلى أنها وإن تجاوزت الحصر فهي كنفس واحدة، ولعله لم يوحده لئلا يظن أن الوحدة على حقيقتها {حين موتها} أي منعها من التصرف في أجسادها في هذه الحياة الدنيا كائنة في مماتها محبوسة فيه مظروفة له، وعطف على الأنفس قوله: {والتي} أي ويتوفى الأنفس التي {لم تمت} لأنها لم تنقض آجالها حين نومها كائنة {في منامها} بمنعها من التصرف بالحس والإدراك ما دام النوم موجوداً مظروفة له لا شيء منها في الجسد على حال اليقظة، فالجامع بينهما عدم الإدراك والشعور والتصرف، ولو قيل: بموتها وبمنامها، لم يفد أن كلاًّ من الموت والوفاة آية مغايرة للأخرى. ولما كان النوم منقضياً، دلنا بقرانه بالموت على أن الموت أيضاً منقض، ولا بد لأن الفاعل لكل منهما واحد، فسبب عن ذلك قوله: {فيمسك} أي فيتسبب عن الوفاتين أنه يمسك عنده {التي قضى} أي ختم وحكم وبت بتاً مقدراً مفروغاً منه، وقراءة البناء للمفعول موضحة لهذا المعنى بزيادة اليسر والسهولة {عليها الموت} مظروفة لمماتها، لا تقدر على تصريف جسدها ما دام الموت محيطاً بها كما أن النائمة كذلك ما دام النوم محيطاً بها {ويرسل الأخرى} أي التي أخر موتها، وجعلها مظروفة للمنام لأنها لم ينقض أجلها الذي ضربه لها بأن يفنى بالمنام فيوقظها لتصريف أبدانها، ويجعل ذلك الإمساك للميتة، والإرسال للنائمة {إلى أجل مسمى} لبعث الميتة ولموت النائمة، لا يعلمه غيره، فإذا جاء ذلك الأجل أمات النائمة وبعث الميتة، وقد ظهر من التقدير الذي هدى إليه قطعاً السياق أن النفس التي تنام هي التي تموت وهي الروح، قال ابن الصلاح في فتاويه: وهو الأشبه بظاهر الكتاب والسنّة- انتهى. روى الطبراني في الأوسط- قال الهيثمي: ورجاله رجال الصحيح- عن ابن عباس رضي الله الله عنهما قال: تلتقي أرواح الأحياء والأموات، فيتساءلون بينهم، فيمسك الله أرواح الموتى ويرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها. وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أوى أحدكم إلى فراشه فليقل» باسمك ربي وضعت جنبي اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين «» وظهر أيضاَ أن الآية من الاحتباك: ذكر الحين أولاً دليلاً على تقدير مثله في النوم ثانياً، والمنام ثانياً دليلاً على حذف الممات أولاً. ولما تم هذا على الأسلوب الرفيع، والنظم المنيع، نبه على عظمته وما فيه من الأسرار بقوله مؤكداً قرعاً بمن يرميه بالأساطير وغيرها من الأباطيل: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم من الوفاة والنوم على هذه الكيفية والعبارة عنه على هذا الوجه {لآيات} أي على أنه لا يقدر على الإحياء والحفظ غيره، وأنه قادر على البعث وغيره من كل ما يريده {لقوم} أي ذوي قوة في مزاولة الأمور. ولما كان هذا الأمر لا يحتاج إلى غير تجريد النفس من الشواغل والتدبر قال: {يتفكرون *} أي في عظمة هذا التدبير ليعلم به عظمة الله، وذلك أن النفس جوهر روحاني له في التعلق بالبدن ثلاث حالات: إحداهما أن يقع ضوء النفس على البدن ظاهراً وباطناً، وذلك هو الحياة مع اليقظة، وثانيتها انقطاع ضوء النفس عن البدن ظاهراً لا باطناً، وذلك بالنوم، وثالثها انقطاع ذلك ظاهراً وباطناً وهو بالموت، فالموت والنوم من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام، والنوم انقطاع ناقص، فلا يقدر على إيجاد شيء واحد على نوعين، ثم يجعلهما في شيء واحد على التعاقب ويفصل كلاًّ منهما من الآخر إلا هو سبحانه، وكلما قدر على إنهاء الموتة الصغرى بحد جعله لها فهو قادر على إنهاء الكبرى بمثل ذلك. ولما أنتج هذا ولا بد نحو أن يقال توعداً لهم: هل علموا أنه لا يقوم شيء مقامه، ولا يكون شيء إلا بإذنه، ولا يقرب أحد من القدرة على شيء من فعله، فكيف بالقرب من رتبته فضلاً عن مماثلته، فرجعوا عن ضلالهم، عادله بقوله: {أم اتخذوا} أي كلفوا أنفسهم بعد وضوح الدلائل عندها أن أخذوا {من دون الله} أي الذي لا مكافئ له مداني {شفعاء} أي تقربهم إليه زلفى في الدنيا وفي الآخرة على تقدير كونها مع قيام الأدلة الشهودية عندهم على أنه لا يشفع أحد إلا عند من يصح أن يكافئه بوجه من الوجوه، ولذلك نبه على المعنى بقوله معرضاً عنهم إشارة إلى سفولهم عن الفهم: {قل أولو} أي أيتخذونهم لذلك ولو {كانوا لا يملكون شيئاً} أي لا تتجدد لهم هذه الصفة {ولا يعقلون *} كما يشاهد من حال أصنامكم. ولما نفى صلاحية أصنامهم لهذا الأمر، أشار إلى نفيه عما سواه بقصر الأمر عليه فقال: {قل لله} أي المحتوي على صفات الكمال وحده {الشفاعة} أي هذا الجنس {جميعاً} فلا يملك أحد سواه منها شيئاً لكنه يأذن إن شاء فيما يريد منها لمن لمن يشاء من عباده. ولما كان كل ما سواه ملكاً له، وكان من المقرر أن المملوك لا يصح أن يملك شيئاً يملكه سيده، لأن الملكين لا يتواردان على شيء واحد من جهة واحدة، علل ذلك بقوله: {له} أي وحده {ملك السماوات والأرض} أي التي لا تشاهدون من ملكه سواهما والشفاعة من ملكهما. ولما كان المملوك ملكاً ضعيفاً قد يتغلب على مالكه فيناظره فيتأهل للشفاعة عنده، نفى ذلك في حقه سبحانه بقوله دالاًّ على عظمة القهر بأداة التراخي فقال: {ثم إليه} أي لا إلى غيره {ترجعون *} معنى في الدنيا بأن ينفذ فيكم جميع أمره وحساً ظاهراً ومعنى في الآخرة.
{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48) فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49)} ولما دل على أن شفعاءهم ليست بأهل للشفاعة، وعلى أن الأمر كله مقصور عليه، وختم بأنه لا بد من الرجوع إليه المقتضي لأن تصرف الهمم كلها نحوه، وتوجه العزائم جميعها تلقاءه، ولأنه لا يخشى سواه ولا يرجى غيره، ذكر حالاً من أحوالهم فقال: {وإذا} أي الحال ما ذكرناه وإذا {ذكر} وأعاد الاسم الأعظم ولم يضمره تعظيماً لأمره زيادة في تقبيح حالهم فقال: {الله} أي الذي لا عظيم غيره ولا أمر لسواه {وحده} أي دون شفعائهم التي قد وضح أنه لا شفاعة لهم: {اشمأزّت} أي نفرت كراهية وذعراً واستكباراً مع تمعر الوجه وتقبضه قلوبهم- هكذا كان الأصل، ولكنه قال: {قلوب الذين لا يؤمنون} أي لا يجددون إيماناً {بالآخرة} بياناً لأن الحامل لهم على ذلك إضاعة اعتقاد ما ختم به الآية من الرجوع إليه الذي أتمه وأظهره رجوع الآخرة {وإذا ذكر الذين} وبكت بهم في رضاهم بالأدنى فقال: {من دونه} أي الأوثان، وأكد فرط جهلهم في اتباعهم الباطل وجمودهم عليه دون تلبث لنظر في دليل، أو سماع لقال أو قيل، بقوله: {إذا هم} أي بضمائرهم المفيضة على ظواهرهم {يستبشرون *} أي فاجؤوا طلب البشر وإيقاعه وتجديده على سبيل الثبات في ذلك كله سواء ذكر معهم الله أو لا، فالاستبشار حينئذ إنما هو بالانداد، والاشمئزاز والاستبشار متقابلان لأن الاشمئزاز: امتلاء القلب غماً وغيظاً فيظهر أثره، وهو الانقباض في أديم الوجه، والاستبشار: امتلاء القلب سروراً حتى يظهر أثره، وهو الانبساط والتهلل في الوجه- قال الزمخشري، والعمل في «إذا» الأولى هو العامل في الفجائية، أي فاجؤوا الاستبشار وقت هذا الذكر، وعبر بالفعل أولاً وبالاسمية ثانياً، ليفيد ذمهم على مطلق الاشمئزاز ولو كان على أدنى الأحوال، وعلى ثبات الاستبشار تقبيحاً لمطلق الكفر، ثم الثبات عليه فتحاً لباب التوبة. ولما نفى صلاحية الوكالة على الناس في الهدى والضلال لغيره ودل على ذلك بملكه وملكه وأخبر بتعمدهم الباطل، أنتج ذلك وجب اللجاء إليه والإعراض عما سواه وقصر العزم عليه فقال معلماً بذلك ومعلماً لما يقال عند مخالفة الداعي باتباع الهوى: {قل} أي يا من نزل عليه الكتاب فلا يفهم عنا حق الفهم غيره راغباً إلى ربك في أن ينصرك عليهم في الدنيا والآخرة: {اللهم} أي يا الله، وهذا نداء محض ويستعمل أيضاً على نحوين آخرين- ذكرهما ابن الخشاب الموصلي في كتابه النهاية شرح الكفاية- أحدهما أن تذكر لتمكين الجواب في نفس السائل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لضمام بن ثعلبة رضي الله عنه حيث قال: «الله أمرك أن تصلي الصلوات الخمس، فقال: اللهم نعم» - إلى آخر ما قاله له، وسره أن المسؤول إذا ذكر الله في جوابه. كان ذكره إياه أبعث للسائل على تصديقه لأنه أوقر في صدره إن لم يتصد لذكر الله ولم يكن بصدده، وهو ممن يدين باستعمال الكذب، والثاني أن يدل به على الندرة وقلة وقوع المذكور كقول المصنفين: لا يكون كذا اللهم إلا إذ كان كذا- كأنه استغفر الله من جزمه أو لا يسد الباب في أنه لا يكون غير ما ذكره فقال: اللهم اغفر لي فإنه يمكن أن يكون كذا- انتهى. ثم أبدل عند سيبويه ووصف عند غيره فقال: {فاطر} أي مبدع من العدم {السماوات} أي كلهم {والأرض} أي جنسها. ولما كانت القدرة لا تتم إلا بتمام العلم قال: {عالم الغيب والشهادة} أي ما لا يصح علمه للخلق وما يصح. ولما كان غيره سبحانه لا يمكن له ذلك، حسن التخصيص في قوله: {أنت} أي وحدك {تحكم بين عبادك} أي أنا وهم وغيرنا في الدنيا والآخرة لا محيص عن ذلك ولا يصح في الحكمة سواه كما أن كل أحد يحكم بين عبيده ومن تحت أمره لا يسوغ في رأيه غير ذلك {في ما كانوا} أي دائماً بما اقتضته جبلاتهم التي جبلتهم عليها {فيه يختلفون *} وأما غيرك فإنه لا يعلم جميع ما يفعلون، فلا يقدر على الحكم بينهم، وأما غير ما هم عريقون في الاختلاف فيه فلا يحكم بينهم فيه لأنه أما ما هيؤوا بفطرهم السليمة وعقولهم القويمة للاتفاق عليه فهو الحق وأما ما يعرض لهم الاختلاف فيه لا على سبيل القصد أو بقصد غير ثابت فهو مما تذهبه الحسنات فعرف أن تقديم الظرف إنما وهو للاختصاص لا الفاصلة. ولما كان التقدير: فيعذب الظالمين فلو علموا ذلك لما ظنوا بادعائهم له سبحانه ولداً وشركاء يقربونهم إليه زلفى منهم بجلاله ونزاهته عما ادعوه له وكماله، عطف عليه تهويلاً للأمر قوله: {ولو أن} وكان الأصل: لهم- ولكنه قال تعميماً وتعليقاً بالوصف: {للذين ظلموا} أي وقعوا في الظلم في شيء من الأشياء ولو قال {ما في الأرض} ولما كان الأمر عظيماً أكد ذلك بقوله: {جميعاً} وزاد في تعظيمه بقوله: {ومثله} وقال: {معه} ليفهم بدل الكل جملة لا على سبيل التقطيع {لافتدوا} أي لاجتهدوا في طلب أن يفدوا {به} أنفسهم {من سوء العذاب} وبين الوقت تعظيماً له وزيادة في هوله فقال: {يوم القيامة} روى الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل لأهون أهل النار عذاباً: لو أن لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ فيقول: نعم، فيقول: قد أردت منك أهون من هذا وأنت صلب آدم عليه السلام أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي» قوله: أردت أي فعلت معك بالأمر فعل المريد وهو معنى قوله في رواية: قد سألتك. ولما كان التقدير: ولو كان لهم ذلك وافتدوا به ما قبل منهم ولا نفعهم، ولأن ذلك الوقت وقت الجزاء لا وقت العمل، واليوم وقت العمل لا وقت الجزاء، فلو أنفقوا فيه أيسر شيء على وجهه قبل منهم، عطف عليه من أصله لا على جزائه قوله معظماً الأمر بصرف القول إلى الاسم الأعظم: {وبدا} أي ظهر ظهوراً تاماً {لهم} في ذلك اليوم {من الله} أي الملك الأعظم، وهول أمره بإبهامه ليكون ضد {فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرة أعين} [السجدة: 17] فقال: {ما لم يكونوا} بحسب جبلاتهم وما فطروا عليه من الإهمال والتهاون {يحتسبون *} أي لم يكن في طبائعهم أن يتعمدوا أن يحسبوه وتجوزه عقولهم من العذاب، وما كان كذلك كان أشق على النفس وأروع للقلب {وبدا لهم} أي ظهر ظهوراً تاماً كأنه في البادية لا مانع منه {سيئات ما} ولما كان في سياق الافتداء، وكان الإنسان يبذل عند الافتداء في فكاك نفسه الرغائب والنفائس، عبر هنا بالكسب الذي من مدلوله الخلاصة والعصارة التي هي سر الشيء فهو أخص من العمل، ولذا جعله الأشعري مناط الجزاء، فقال مبيناً أن خالص عملهم ساقط فكيف بغيره، وهذا بخلاف ما في الجاثية {كسبوا} أي الشيء الذي عملوه برغبة مجتهدين فيه لظنهم نفعه وأنه خاص أعمالهم وأجلها وأنفعها {وحاق} أي أحاط على جهة اللزوم والأذى {بهم ما} أي جزاء الشيء الذي {كانوا به} أي دائماً كأنهم جبلوا عليه {يستهزئون *} أي يطلبون ويوجدون الهزء والسخرية به من النار وجميع ما كانوا يتوعدون به. ولما أخبر عن ظهور هذا لهم، علله بأنهم كانوا يفعلون ما لم يكن في العادة يتوقع منهم، وهو مجازاة الإحسان بالإساءة وقد كانوا جديرين بضده فقال: {فإذا} أي وقع لهم ذلك بسبب أنهم إذا مسهم، ولكنه أخبر عن النوع الذي هم منه بما هو مطبوع عليه فقال: {مس الإنسان ضر} أيّ ضر كان من جهة يتوقعها كما تقدم في التي في أول السورة، ويجوز أن يكون مسبباً عن الإخبار بافتدائهم بما يقدرون عليه وأن يكون مسبباً عن اشمئزازهم من توحيد الله تعجيباً من حالهم في تعكيسهم وضلالهم، وتقدم في الآية التي في أول السورة سر كونها بالواو، ولفت القول إلى مظهر العظمة دالاً على أن أغلب الناس لا يرجى اعترافه بالحق وإذعانه لأهل الإحسان إلا إذا مس بأضرار فقال: {دعانا} عالماً بعظمتنا دون آلهته مع اشمئزازه من ذكرنا واستبشاره بذكرها. ولما كان ذلك الضر عظيماً يبعد الخلاص عنه من جهة أنه لا حيلة لمخلوق في دفعه، أشار إلى عظمته وطول زمنه بأداة التراخي فقال مقبحاً عليه نسيانه للضر مع عظمه في نفسه ومع طول زمنه: {ثم إذا خولناه} أي أعطيناه على عظمتنا متفضلين عليه محسنين القيام بأمره وجعلناه خليقاً بحاله جديراً بتدبيره على غير عمل عمله محققين لظنه الخير فينا وأحسنا تربيتنا له والقيام عليه مع ما فرط في حقنا {نعمة منا} ليس لأحد غيرنا فيها شائبة منّ ولولا عظمتنا ما كانت {قال} ناسياً لما كان فيه من الضر وإن كان قد طال أمده، قاصراً لها على نفسه غير متخلق بما نبهناه على التخلق به من إحساننا إليه وإقبالنا عليه عند إذعانه، مذكراً لضميرها تفخيماً لها، وبنى الفعل للمجهول إشارة إلى أنه لا نظر له في تعرف المعطي من هو يشكره، وإنما نظره في عظمة النعمة وعظمة نفسه، وإنها على مقدار ما: {إنما أوتيته} أي هذا المنعم به عليّ الذي هو كبير وعظيم لأني عظيم فأنا أعطي على مقداري، و«ما» هي الزائدة الكافة لأن للدلالة على الحصر، ويجوز أن تكون موصولة هي اسم إن وخبرها قوله: {على} إي إيتاء مستعلياً متمكناً على {علم} أي عظيم، وجد مني بطريق الكسب والاجتهاد ووجوده الطلب والاحتيال، فكان ذلك سبباً لمجيئه إليّ أو علم من الله باستحقاقه له. ولما كان التقدير: ليس كذلك ولا هي نعمة، قال دالاً على شؤم ذلك المعطي وحقارته لأنه من أسباب إضلاله بالتأنيث {بل هي} أي العطية والنعمة {فتنة} لاختباره هل يشكر أم يكفر لتقام عليه الحجة. فإن أدت إلى النار كانت استدراجاً، وأنث الضمير تحقيراً لها بالنسبة إلى قدرته سبحانه وتعالى ولأنها أدت إلى الغرور بعد أن ذكر ضميرها أولاً تعظيماً لها لإيجاب شكرها. ولما كان من المفتونين من ينتبه وهم الأقل، قال جامعاً تنبيهاً على إرادة الجنس وأن تعبيره أولاً بإفراد الضمير إشارة إلى أن أكثر الناس كأنهم في ذلك الخلق النحس نفس واحدة: {ولكن أكثرهم} أي أكثر هؤلاء القائلين لهذا الكلام {لا يعلمون *} أي لا يتجدد لهم علم أصلاً لأنهم طبعوا على الجلافة والجهل والغباوة، فلو أنهم إذا دعونا وهم في جهنم أجبناهم وأنعمنا عليهم نعمتنا ونسبوها إلى غيرنا كما كانوا يفعلون في الدنيا سواء.
{قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53)} ولما كان كفار قريش مقصودين بهذا قصداً عظيماً وإن كان شاملاً بإطلاقه غيرهم من الأولين والآخرين قال موضحاً لذلك: {قد قالها} أي مقالتهم {إنما أوتيته على علم} {الذين من قبلهم} أي ممن هو أشد منهم قوة وأكثر جمعاً كما قال قارون ومن رضي حاله فتمنى ماله {فما أغنى عنهم} أي أولئك الماضين {ما كانوا} بما اقتضته جبلاتهم {يكسبون *} أي يجددون على الاستمرار كسبه من المال والجاه وإن كان مليء السهل والجبل: {فأصابهم} أي إصابة شديدة بما دل عليه تذكير الفعل- أي تسبب عن عدم الإغناء أنه أصابهم {سيئات ما كسبوا} أي وبال ذلك وما يسوء من آثاره {والذين ظلموا} أي أوقعوا الأشياء في غير محالها {من هؤلاء} أي قومك الذين لا يتدبرون القرآن فإنهم لو تدبروا آياته عرفوا ولكن سبق عليهم العمى {سيصيبهم} أي إصابة شديدة جداً بوعد لا خلف فيه كما أصاب من قبلهم {سيئات ما كسبوا} أي عملوا من الأشر والبطر فيه أعمال من يظن أنه لا تناله مصيبة في الدنيا وأنه لا يبعث إلى ما أعددنا له من الأهوال في الآخرة، ولقد أصابهم ذلك، فأول ما أصابهم ما كشف عنه الزمان من وقعة بدر ثم ما تبعه إلى ما لا آخر له. ولما ثبت أن الضار النافع إنما هو الله، من شاء أعطاه، ومن شاء منعه، ومن شاء استلبه ووضعه بعد ما رفعه، وكان التقدير: ألم يعلموا أن ما جمعه من قبلهم لم يدفع عنهم أمر الله، عطف قوله: {أولم} ولما كان السياق لنفي العلم عن الأكثر، وكان مقصود السورة بيان أنه صادق الوعد ومطلق العلم كافٍ فيه، عبر بالعلم بخلاف ما مضى في الروم فقال: {يعلموا} أي بما رأوا في أعمارهم من التجارب. ولفت الكلام إلى الاسم الأعظم تعظيماً للمقام ودفعاً للبس والتعنت بغاية الإفهام: {أن الله} أي الذي له الجلال والجمال {يبسط} أي هو وحده {الرزق} غاية البسط {لمن يشاء} وإن كان لا حيلة له ولا قوة {يقدر} أي يضيق مع النكد بأمر قاهر على من هو أوسع الناس باعاً في الحيل وأمكنهم في الدول، ومن المعلوم أنه لولا أن ذلك كله منه وحده لما كان أحد ممن له قوة في الجسم وتمكن في العلم فقيراً أصلاً. ولما كان هذا أمراً لا ينكره أحد، عده مسلماً وقال: {إن في ذلك} أي الأمر العظيم، وأكده لأن أفعالهم أفعال من ينكر أن يكون فيه عبرة {لآيات لقوم} ذوي قوة وهمم عليه {يؤمنون *} أي هيئوا لأن يوجد منهم الإيمان فيجددوا التصديق في كل وقت تجديداً مستمراً بأن الأمور كلها من الله فيخافوه ويرجوه ويشكروه ولا يكفروه، وأما غيرهم فقد حقت عليه الكلمة بما هيئ له من عمل النار، فلا يمكنه الإيمان فليس له في ذلك آيات لأنها لا تنفعه. ولما حذر سبحانه في هذه السورة ولا سيما في هذه الآيات فطال التحذير، وأودعها من التهديد وصادع الإنذار والوعيد العظيم الكثير، وختم بالحث على الإيمان، والنظر السديد في العرفان، وكانت كثرة الوعيد ربما أيأست ونفرت وأوحشت، وصدت عن العطف وأبعدت، قال تعالى مستعطفاً مترفقاً بالشاردين عن بابه متلطفاً جامعاً بين العاطفين، كلام ذوي النعمة على لسان نبي الرحمة صارفاً القول إلى خطابه بعد أسلوب الغيبة: {قل} أي يا أكرم الخلق وأرحمهم بالعباد، ولفت عما تقتضيه «قل» من الغيبة إلى معنى الخطاب زيادة في الاستعطاف، وزاد في الترفق بذكر العبودية والإضافة إلى ضميره عرياً عن التعظيم فقال: {يا} أي ربكم المحسن إليكم يقول: يا {عبادي} فلذذهم بعد تلك المرارات بحلاوة الإضافة إلى جنابه تقريباً من بابه. ولما أضاف، طمع المطيعون أن يكونوا هم المقصودين، فرفعوا رؤوسهم، ونكس العاصون وقالوا: من نحن حتى يصوب نحونا هذا المقال؟ فقال تعالى جابراً لهم: {الذين أسرفوا} أي تجاوزوا الحد في وضع الأشياء في غير مواضعها حتى صارت لهم أحمال ثقال {على أنفسهم} فأبعدوها عن الحضرات الربانية، وأركسوها في الدنايا الشيطانية، فانقلب الحال، فهؤلاء الذين نكسوا رؤوسهم انتعشوا وزالت ذلتهم والذين رفعوا رؤوسهم أطرقوا وزالت صولتهم- قاله القشيري، وأفهم تقييد الإسراف أن الإسراف على الغير لا يغفر إلا بالخروج عن عهدة ذلك الغير {لا تقنطوا} أي ينقطع رجاؤكم وتيأسوا وتمتنعوا- وعظم الترجية بصرف القول عن التكلم وإضافة الرحمة إلى الاسم الأعظم الجامع لجميع صفات الجلال والإكرام فقال: {من رحمة الله} أي إكرام المحيط بكل صفات الكمال، فيمنعكم ذلك القنوط من التوبة التي هي باب الرحمة، ولعظم المقام أضاف إلى الاسم الأعظم، ثم علل ذلك بقوله على سبيل التأكيد لظنهم أن كثرة الوعيد منعت الغفران، وحتمت الجزاء بالانتقام، وكرر الاسم الأعظم تعظيماً للحال، وتأكيداً بما فيه من معنى الإحاطة والجمع لإرادة العموم: {إن الله} أي الجامع لجميع نعوت الجمال والجلال والإكرام، فكما أنه متصف بالانتقام وهو متصف بالعفو والغفران {يغفر} إن شاء {الذنوب} ولما أفهمت اللام الاستغراق أكده فقال: {جميعاً} ولا يبالي، لكنه سبق منه القول أنه إنما يغفر الشرك بالتوبة عنه، وأما غيره فيغفره إن شاء بتوبة وإن شاء بلا توبة، ولا يقدر أحد أن يمنعه من شيء من ذلك. ولما كان لا يعهد في الناس مثل هذا بل لو أراد ملك من ملوك الدنيا العفو عن أهل الجرائم، قام عليه جنده فانحل عقده وانثلم حده، علل هذه العلة بما يخصه، فقال مؤكداً لاستبعاد ذلك بالقياس على ما يعهدون: {إنه هو} أي وحده {الغفور} أي البليغ المغفرة بحيث يمحو الذنوب مهما شاء عيناً وأثراً، فلا يعاقب ولا يعاتب {الرحيم *} أي المكرم بعد المغفرة ولا يقدر أحد أصلاً على نوع اعتراض عليه، ولا توجيه طعن إليه.
{وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)} ولما كان التقدير: فأقلعوا عن ذنوبكم، فإنها قاطعة عن الخير، مبعدة عن الكمال، عطف عليه استعطافاً قوله دالاً على أن الغفران المتقدم إنما هو إذا شاء التفضل سبحانه بتوبة وبغير توبة: {وأنيبوا} أي ارجعوا بكلياتكم وكلوا حوائجكم وأسندوا أموركم واجعلوا طريقكم {إلى} ولفت الكلام إلى صفة الإحسان زيادة في الاستعطاف فقال: {ربكم} أي الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه {وأسلموا له} أي أوجدوا إسلام جميع ما ملكه لكم من الأعيان والمعاني متبرئين عنه لأجله فإنه لو شاء سلبكموه، فإذا لم تكونوا مالكيه ملكاً تاماً فعدوا أنفسكم عارية عنه غير مالكة له ولا قادرة، وكان الذي لكم بالإصالة ما كان. ولما كان ذلك شديداً لأن الكف عما أشرفت النفس على بلوغ الوطر منه في غاية المرارة، قال مهدداً لهم دالاً بحرف الابتداء على رضاه منهم بإيقاع ما أقر به في اليسير من الزمان لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره الله حق قدره باستغراق الزمان في الطاعة وإن كان إبهام الأجل يحدو العاقل على استغراقه فيها: {من قبل أن يأتيكم} أي وأنتم صاغرون {العذاب} أي القاطع لكل العذوبة المجرّع لكل مرارة وصعوبة. ولما كان الإنسان ربما توقع ضرراً في إقدامه على ما له فيه لذة، وحاول دفعه، قال معظماً لهذا العذاب مشيراً بأداة التراخي إلى أنه لا يمكن دفعه ولو طال المدى: {ثم لا تنصرون *} أي لا يتجدد لكم نوع نصر أبداً. ولما أمر برؤية الأمور كلها من الله وإسلام القياد كله إليه، أمر بما هو أعلى من ذلك، وهو المجاهدة بقتل النفس فقال: {واتبعوا} أي عالجوا أنفسكم وكلفوها أن تتبع {أحسن ما أنزل} واصلاً {إليكم} على سبيل العدل كالإحسان الذي هو أعلى من العفو الذي هو فرق الانتقام باتباع هذا القرآن الذي هو أحسن ما نزل من كتب الله وباتباع أحاسن ما فيه، فتصل من قطعك وتعطي من حرمك وتحسن إلى من ظلمك، هذا في حق الخلائق ومثله في عبادة الخالق بأن تكون «كأنك تراه» الذي هو أعلى من استحضار «إنه يراك» الذي هو أعلى من أدائها مع الغفلة عن ذلك. ولما كان هذا شديداً على النفس، رغب فيه بقوله مظهراً صفة الإحسان موضع الإضمار: {من ربكم} أي الذي لم يزل يحسن إليكم وأنتم تبارزونه بالعظائم. ولما كان من النفوس ما هو كالبهائم لا ينقاد إلا بالضرب، قال منبهاً أيضاً علة رفقه بإثبات الجار: {من قبل أن يأتيكم} أي على ما بكم من العجز عن الدفاع {العذاب} أي الأمر الذي يزيل ما يعذب ويحلو لكم في الدنيا أو في الآخرة. ولما كان الأخذ على غرة أصعب على النفوس قال: {بغتة} ولما كان الإنسان قد يشعر بالشيء مرة ثم ينساه فيباغته، نفى ذلك بقوله: {وأنتم لا تشعرون *} أي ليس عندكم شعور بإتيانه لا في حال إتيانه ولا قبله بوجه من الوجوه لفرط غفلتكم، ليكون افظع ما يكون على النفس لشدة مخالفته لما هو مستقر فيها وهي متوطنة عليه من ضده. ولما كان للإنسان عند وقوع الخسران أقوال وأحوال لو تخيلها قبل هجومه لحسب حسابه فباعد أسبابه. علل الإقبال على الاتباع بغاية الجهد والنزاع فقال: {أن} أي كراهة أن {تقول} ولما كان الموقع للإنسان في النقصان إنما هو حظوظه وشهواته المخالفة لعقله، عبر بقوله: {نفس} أي عند وقوع العذاب لها، وإفرادها وتنكيرها كاف في الوعيد لأن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد {يا حسرتى} والتحسر: الاغتمام على ما فات والتندم عليه، وألحق الألف بدلاً من الياء تعظيماً له، أي يا طول غماه لانكشاف ما فيه صلاحي عني وبعده مني فلا وصول لي إليه لاستدراك ما فات منه، وذلك عند انكشاف أحوالها، وحلول أوجالها وأهوالها ودل على تجاوز هذا التحسر الحد قراءة أبي جعفر «حسرتاي» بالجميع بين العوض وهو الألف والمعوض عنه وهو الياء، وحل المصدر لأن ما حل إليه أصرح في الإسناد وأفخم، وأدل على المراد وأعظم، فقال: {على ما فرطت} أي بما ضيعت فانفرط مني نظامه، وتعذر انضمامه والتئامه. ولما كان حق كل أحد قريباً منه حساً أو معنى حنى كأنه إلى جنبه، وكان بالجنب قوام الشيء ولكنه قد يفرط فيه لكونه منحرفاً عن الوجاه والعيان، فيدل التفريط فيه على نسبة المفرط لصاحبه إلى الغفلة عنه، وذلك أمر لا يغفر، قال: {في جنب} وصرف القول إلى الاسم الأعظم لزيادة التهويل بقوله: {الله} أي حق الملك الأعظم الذي هو غير مغفول عنه ولا متهاون به. ولما كان المضرور المعذب المقهور يبالغ في الاعتراف، رجاء القبول والانصراف، قال مؤكداً مبالغة في الإعلام بالإقلاع عما كان يقتضيه حاله، ويصرح به مقاله، من أنه على الحق واجد الجد: {وإن} أي والحال أني {كنت} أي كان ذلك في طبعي {لمن الساخرين *} أي المستهزئين المتكبرين المنزلين أنفسهم في غير منزلتها، وذلك أنه ما كفاني المعصية حتى كنت أسخر من أهل الطاعة، أي تقول: هذا لعله يقيل منها ويعفي عنها على عادة المترققين في وقت الشدائد، لعلهم يعادون إلى أجمل العوائد. ولما كانت النفس إذا وقعت في ورطة لا تدع وجهاً محتملاً حتى تتعلق بأذياله، وتمت بحباله وتفتر بمحاله، قال حاكياً كذبها حيث لا يغني إلا الصدق: {أو تقول} أي عند نزول ما لا قبل لها به {لو أن} وأظهر ولم يضمر إظهاراً للتعظيم وتلذذاً بذكر الاسم الشريف فقال: {الله} أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل {هداني} أي ببيان الطريق {لكنت} أي ملازماً ملازمة المطبوع على كوني {من المتقين *} أي الذي لا يقدمون على فعل ما لم يدلهم عليه دليل.
{أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62)} ولما ذكر حالها في الاعتراف بالبطلان، ثم الفزع إلى الزور والبهتان، أتبعه التمني الذي لا يفيد غير الخسران، فقال: {أو تقول} أي تلك النفس المفرطة {حين ترى العذاب} أي الذي هاجمها للرحمة أو النقمة: {لو أن} أي يا ليت {لي كرة} أي رجعة إلى دار العمل لأتمكن منه {فأكون} أي فيتسبب عن رجوعي إليها أن أكون {من المحسنين *} أي العاملين بالإحسان الذي دعا إليه القرآن، هذا الإعراب- وهو عطفه على الجواب- أوفق لبقية الآيات التي من سلكه. ولما حذر سبحانه بما يكون للمأخوذ من سيئ الأحوال وفظيع الأهوال، وكان معنى ما تقدم من كذبه وتمنيه أنه ما جاءني بيان ولا كان لي وقت أتمكن فيه من العمل، قال تعالى مكذباً له: {بلى} أي قد كان لك الأمران كلاهما {قد جاءتك} ولفت القول إلى التكلم مع تجريد الضمير عن مظهر العظمة لما تقدم من موجبات استحضارها إعلاماً بتناهي الغضب بعد لفته إلى تذكير النفس المخاطبة المشير إلى أنها فعلت في العصيان فعل الأقوياء الشداد من التكذيب والكبر مع القدرة في الظاهر على تأمل الآيات، واستيضاح الدلالات، والمشي على طرق الهدايات بعد ما أشار تأنيثها إلى ضعفها عن حمل العذاب وغلبة النقائص لها فقال: {آياتي} على عظمتها في البيان الذي ليس مثله بيان في وقت كنت فيه متمكناً من العمل بالجنان واللسان والأركان {فكذبت بها} جرأة على الله وقلة مبالاة بالعواقب {واستكبرت} أي عددت نفسك كبيراً عن قبولها {وكنت} أي كوناً كأنه جبلة لك لشدة توغلك فيه وحرصك عليه {من الكافرين *} أي العريقين في ستر ما ظهر من أنوار الهداية للتكذيب تكبراً لم يكن لك مانع من الإحسان إلا ذلك لا عدم البيان ولا عدم الزمان القابل للعمل. ولما كان قد تعمد الكذب عند مس العذاب في عدم البيان والوقت القابل، قال تعالى محذراً من حاله وحال أمثاله، ولفت القول إلى من لا يفهمه حق فهمه غيره تسلية له وزيادة في التخويف لغيره: {ويوم القيامة} أي الذي لا يصح في الحكمة تركه {ترى} أي يا محسن {الذين كذبوا} وزاد في تقبيح حالهم في اجترائهم بلفت القول إلى الاسم الأعظم فقال: {على الله} أي الحائز لجميع صفات الكمال بأن وصفوه بما لا يليق به وهو منزه عنه من أنه فعل ما لا يليق بالحكمة من التكليف مع عدم البيان، ومن خلق الخلق يعدو بعضكم على بعض من غير حساب يقع فيه الإنصاف بين الظالم والمظلوم، أو ادعوا له شريكاً أو نحو ذلك، قال ابن الجوزي: وقال الحسن: هم الذين يقولون: إن شئنا فعلنا، وإن شئنا لم نفعل- انتهى، وكأنه عنى المعتزلة الذين اعتزلوا مجلسه وابتدعوا قولهم: إنهم يخلقون أفعالهم، ويدخل فيه كل من تكلم في الدين بجهل، وكل من كذب وهو يعلم أنه كاذب في أيّ شيء كان، فإنه من حيث إن فعله فعل من يظن أن الله لا يعلم كذبه أو لا يقدر على جزائه كأنه كذب على الله- تراهم بالعين حال كونهم {وجوههم مسودة} مبتدأ وخبر، وهو حال الموصول أي ثابت سوادها زائد البشاعة والمعظم في الشناعة بجعل ذلك إمارة عليهم ليعرفهم من يراهم بما كذبوا في الدنيا فإنهم لم يستحيوا من الكذب المخزي، أليس ذلك زاجراً عن مطلق الكذب فكيف بالكذب على الله الذي جهنم سجنه فكيف بالمتكبرين عليه {أليس في جهنم} أي التي تلقى فيها بالتجهم والعبوسة {مثوى} أي منزل {للمتكبرين *} الذي تكبروا على اتباع أمر الله. ولما ذكر حال الذين أشقاهم، أتبعهم حال الذين أسعدهم، فقال عاطفاً لجملة على جملة لا على «ترى» المظروف ليوم القيامة، إشارة إلى أن هذا فعله معهم في الدارين وإشارة إلى كثرة التنجية لكثرة الأهوال كثرة تفوت الحصر: {وينجي} أي مطلق إنجاء لبعض من اتقى بما أشارت إليه قراءة يعقوب بالتخفيف، وتنجية عظمية لبعضهم بما أفادته قراءة الباقين بالتشديد، وأظهر ولم يضمر زيادة على تعظيم حالهم وتسكين قلوبهم {الله} أي يفعل بما له من صفات الكمال في نجاتهم فعل المبالغ في ذلك {الذين اتقوا} أي بالغوا في وقاية أنفسهم من غضبه فكما وقاهم في الدنيا من المخالفات حماهم هناك من العقوبات {بمفازتهم} أي بسبب أنهم عدوا أنفسهم في مفازة بعيدة مخوفة فوقفوا فيها عن كل عمل إلا بدليل لئلا يمشوا بغير دليل فيهلكوا، فأدتهم تقواهم إلى الفوز، وهو الظفر بالمراد وزمانه ومكانه الذي سميت المفازة به تفاؤلاً، ولذلك فسر ابن عباس رضي الله عنهما المفازة بالأعمال الحسنة لأنها سبب الفوز، وقرئ بالجمع باعتبار أنواع المصدر، وذلك كله بعناية الله بهم في الدارين، فمفازة كل أحد في الأخرى على قدر مفازته بالطاعات في الدنيا. ولما كان كأنه قيل: ما فعل في تنجيتهم؟ قال ذاكراً نتيجة التنجية {لا يمسهم السوء} أي هذا النوع فلا يخافون {ولا هم يحزنون *} أي ولا يطرق بواطنهم حزن على فائت لأنهم لا يفوت لهم شيء أصلاً. ولما كان المخوف منه والمحزون عليه جامعين لكل ما في الكون فكان لا يقدر على دفعهما إلا المبدع القيوم، قال مستأنفاً أو معللاً مظهراً الاسم الأعظم تعظيماً للمقام: {الله} أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً الذي نجاهم {خالق كل شيء} فلا يكون شيء أصلاً إلا بخلقه، وهو لا يخلق ما يتوقعون منه خوفاً، ولا يقع لهم عليه حزن. ولما دل هذا على القدرة الشاملة، كان ولا بد معها من العلم الكامل قال: {وهو} وعبر بأداة الاستعلاء لأنه من أحسن مجزأتها {على كل شيء} أي مع القهر والغلبة {وكيل *} أي حفيظ لجميع ما يريد منه، قيوم لا عجز يلم بساحته ولا غفلة.
{لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)} ولما كان الخافقان خزائن الكائنات، وكان لا يتصرف في الخزائن إلا ذو المفاتيح، قال دالاً على وكالته: {له} أي وحده {مقاليد} واحدها مقلاد مثل مفتاح، ومقليد مثل قنديل، وهي المفاتيح والأمور الجامعة القوية وهي استعارة لشدة التمكن من {السماوات} أي جميع أعدادها {والأرض} أي جنسها خزائنهما وأمورهما ومفاتيحهما الجامعة لكل ما فيهما، فلا يمكن أن يكون فيهما شيء ولا أن يتصرف فيه شيء منهما ولا فيهما أحد إلا بإذنه فلا بدع في تنجيته الذين اتقوا. ولما كان التقدير: فالذين آمنوا بالله وتقبلوا آياته أولئك هم الفائزون، عطف عليه قوله الذي اقتضاه سياق التهديد: {والذين كفروا} أي لبسوا ما اتضح لهم من الدلالات، وجحدوا أن تكون الأمور كلها بيده {بآيات الله} أي الذي لا ظاهر غيرها، فإنه ليس في الوجود إلا ذاته سبحانه وهي غيب لا يمكن المخلوق دركها، وأفعاله وهي أظهر الأشياء، وصفاته وهي غيب من جهة شهادة من جهة أخرى {أولئك} البعداء البغضاء {هم} خاصة {الخاسرون *} فإنهم خسروا نفوسهم وكل شيء يتصل بها على وجع النفع لأن كفرهم أقبح الكفر من حيث إنه متعلق بأظهر الأشياء. ولما قامت هذه الدلائل كما ترى قيام الأعلام، فانجابت دياجير الظلام، وكان الجهلة قد دعوه صلى الله عليه وسلم كما قال المفسرون في أول سورة ص- إلى أن يكف عن آلهتهم، وكان الإقرار عليها عبادة لها، تسبب عن ذلك أمره صلى الله عليه وسلم بما يصدعهم به بقوله: {قل} ولما كان مقام الغيرة يقتضي محو الأغيار، وكان الغير إذا انمحى تبعه جميع أعراضه، قدم الغير المفعول لأعبد المفعول- على تقدير «أن»- لتأمر فقال: {أفغير الله} أي الملك الأعظم الذي لا يقر على فساد أصلاً. ولما كان تقديم الإنكار على فعلهم لهم أرجع، وتأخير ما سبق من الكلام لإنكاره أروع، وكان مد الصوت أوكد في معنى الكلام وأفزع وأهول وأفظع، قال صارفاً الكلام إلى خطابهم، لأنه أقعد في إرهابهم وأشد في اكتئابهم {تأمروني} بالإدغام المقتضي للمد في قراءة أكثر القراء. ولعل الإدغام إشارة إلى أنهم حالوه صلى الله عليه وسلم في أمر آلهتهم على سبيل المكر والخداع. ولما قرر الإنكار لإثبات إلإغيار، أتم تقرير ذكر العامل في {غير} قال حاذفاً «أن» المصدرية لتصير صلتها في حيز الإنكار: {أعبد} وهو مرفوع لأن «أن» لما حذفت بطل عملها، ولم يراع أيضاً حكمها ليقال: إنه يمتنع نصب «غير» بها لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول. ولما كانت عبادة غير الله أجهل الجهل، وكان الجهل محط كل سفول، قال: {أيها الجاهلون *} أي العريقون في الجهل، وهو التقدم في الأمور المنبهمة بغير علم- قاله الحرالي في سورة البقرة. ولما كان التقديم يدل على الاختصاص، وكانوا لم يدعوه للتخصيص، بل للكف المقتضي للشرك، بين أنه تخصيص من حيث إن الإله غني عن كل شيء فهو لا يقبل عملاً فيه شرك، ومتى حصل أدنى شرك كان في ذلك العمل كله للذي أشرك، فكان التقدير بياناً لسبب أمره بأن يقول لهم ما تقدم منكراً عليهم: قل كذا، فلقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك وجوب التوحيد، فعطف عليه قوله مؤكداً لأجل ما استقر في النفوس من أن من عمل لأحد شيئاً قبل سواء كان على وجه الشركة أولا: {ولقد} ولما كان الموحي معلوماً له صلى الله عليه وسلم، بني للمفعول قوله: {أوحي إليك} ولما كان التعميم أدعى إلى التقبل قال: {وإلى الذين} ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان لبعض الناس قال: {من قبلك} ولما كان الحكم على قوم ربما كان حكماً على المجموع مع قيد الجمع خص بياناً لأنه مع كونه حكماً على المجموع حكم على كل فرد، ولأن خطاب الرئيس خطاب لأتباعه لأنه مقتداهم. ولما كان الموحى إليهم أنه من أشرك حبط عمله سواء كان هو أو غيره، صح قوله بالإفراد موضع نحو أن الإشراك محبط للعمل وقائم مقام الفاعل، وعدل عنه إلى ما ذكر لأنه أعظم في النهي وأقعد في الزجر لمن يتأهل له من الأمة، وأكد لأن المشركين ينكرون معناه غاية الإنكار: {لئن} أي أوحى إلى كل منكم هذا اللفظ وهو وعزتي لئن {أشركت} أي شيئاً من الأشياء في شيء من عملك بالله وهو من فرض المحال، ذكره هكذا ليكون أروع للأتباع، والفعل بعد إن الشرطية للاستقبال، فعدل هنا عن التعبير بالمضارع للمطابقة بين اللفظ والمعنى لأن الآية سبقت للتعريض بالكفار فكان التعبير بالماضي أنسب ليدل بلفظه على أن من وقع منه شرك فقد خسر، وبمعناه على أن الذي يقنع منه ذلك فهو كذلك. ولما تقرر الترهيب أجاب الشرط والقسم بقوله: {ليحبطن} أي ليفسدن فيبطلن عملك فلا يبقى له أثراً ما من جهة القادر فلأنه أشرك به فيه وهو غني لا يقبل إلا الخالص، لأنه لا حاجة إلى شيء، وأما من جهة غيره فلأنه لا يقدر على شيء. ولما كان السياق للتهديد، وكانت العبادة شاملة لمت تقدم على الشرك من الأعمال وما تأخر عنه، لم يقيده بالاتصال بالموت اكتفاء بتقييده في آية البقرة وقال: {ولتكونن} أي لأجل حبوطه {من الخاسرين *} فإنه من ذهب جميع عمله لا شك في خسارته، والخطاب للرؤساء على هذا النحو- وإن كان المراد به في الحقيقة أتباعهم- أزجر للأتباع، وأهز للقلوب منهم والأسماع. ولما كان التقدير قطعاً: فلا تشرك، بنى عليه قوله: {بل الله} أي المتصف بجميع صفات الكمال وحده بسبب هذا النهي العظيم والتهديد الفظيع مهما وقعت منك عبادة ما {فاعبد} أي مخلصاً له العبادة، فحذف الشرط، عوض عنه بتقديم المفعول. ولما كانت عبادته لا يمكن أن تقع إلا شكراً لما له من عموم النعم سابقاً ولاحقاً، وشكر المنعم واجب، نبه على ذلك قوله: {وكن من الشاكرين *} أي العريقين في هذا الوصف لأنه جعلك خير الخلائق. ولما كان التقدير: فما أحسن هؤلاء ولا أجملوا حين دعوك للإشراك بالله، وما عبدوه حق عبادته إذ أشركوا به، عطف عليه قوله: {وما قدروا} وأظهر الاسم الأعظم في أحسن مواطنه فقال: {الله} أي الملك الأعظم {حق قدره} أي ما عظموه كما يجب له فإنه لو استغرق الزمان في عبادته وخالص طاعته بحيث لم يخل شيء منه عنها لما كان ذلك حق قدره فكيف إذا خلا بعضه عنها فكيف إذا عدل به غيره. ولما ذكر تعظيم كل شيء ينسب إليه، دل على باهر قدرته الذي هو لازم القبض والطي بما يكون من الحال في طي هذا الكون، فقال كناية عن العظمة بذلك: {والأرض} أي والحال أنها، وقدمها لمباشرتهم لها ومعرفتهم بحقيقتها. ولما كان ما يدركون منها من السعة والكبر كافياً في العظمة وأن لم يدركوا أنه سبع، أكد بما يصلح لجميع طبقاتها تنبيهاً للبصراء على أنها سبع من غير تصريح به فقال: {جميعاً} ولما كان أحقر ما عند الإنسان وأخفه عليه ما يحويه في قبضته، مثل بذلك في قوله مخبراً عن المبتدأ مفرداً بفتح القاف لأنه أقعد في تحقير الأشياء العظيمة بالنسبة إلى جليل عظمته: {قبضته}. ولما كان في الدنيا من يدعي الملك والقهر والعظمة والقدرة، وكان الأمر في الآخرة بخلاف هذا لانقطاع الأسباب قال: {يوم القيامة} ولا قبضة هناك حقيقية ولا مجازاً، وكذا الطي واليمين، وإنما تمثيل وتخييل لتمام القدرة. ولما كانوا يعلمون أن السماوات سبع متطابقة بما يشاهدون من سير النجوم، جمع ليكون مع {جميعاً} كالتصريح في جميع الأرض أيضاً في قوله: {والسماوات مطويات} ولما كان العالم العلوي أشرف، شرفه عند التمثيل باليمين فقال: {بيمينه} ولما كان هذا إنما هو تمثيل بما نعهد والمراد به الغاية في القدرة، نزه نفسه المقدس عما ربما تشبث به المجسم والمشبه فقال: {سبحانه} أي تنزه من هذه القدرة قدرته عن كل شائبة نقص وما يؤدي إلى النقص من الشرك والتجسيم وما شاكله {وتعالى} علواً لا يحاط به {عما يشركون *} أي إن علوه عن ذلك علو من يبالغ فيه، فهو في غاية من العلو لا يكون وراءها غاية لأنه لو كان له شريك لنازعه هذه القدرة أو بعضها فمنعه شيئاً منها، وهذه معبوداتهم لا قدرة لها على شيء، روى البخاري في صحيحه في التوحيد وغيره من عبد الله رضي عنه قال: «جاء حبر من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا كان يوم القيامة جعل الله السماوات على إصبع، والأرضين على إصبع والماء والثرى على إصبع والخلائق على إصبع ثم يميزهن ثم يقول: أنا الملك، فلقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يضحك حتى بدت نواجذه- تعجيباً وتصديقاً لقوله- ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم {وما قدروا الله حق قدره}- إلى:- {يشركون} [الأنعام: 91]» وروى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يطوي الله السماوات يوم القيامة ثم يأخذهن بيده اليمنى ثم يقول: أنا الملك اين الجبارون أين المتكبرون ثم يطوي الأرضين ثم يأخذهن بشماله ثم يقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون»، وللبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقبض الله الأرض يوم القيامة، ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض».
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68)} ولما دل على عظيم قدره بعض ما يكون يوم القيامة، أتبعه ما لا يحتمله القوي من أحوال ذلك اليوم دليلاً آخر، فقال دالاً على عظيم قدرته وعزه وعظمته بالبناء للمفعول: {ونفخ في الصور} أي القرن العاطف للأشياء المقبل بها نحو صوته المميل لها عن أحوالها العالي عليها في ذلك اليوم بعد بعث الخلائق وهي النفخة الأولى بعد البعث التي هي بعد نفختي الموت والبعث المذكورتين في سورة يس، والمراد بها- والله أعلم- إلقاء الرعب والمخافة والهول في القلوب إظهاراً للعظمة وتردياً بالكبرياء والعز في عزة يوم المحشر ليكون أول ما يفجأهم يوم الدين ما لا يحتمله القوي، ولا تطيقه الأحلام والنهى، كما كان آخر ما فجأهم في يوم الدنيا وإن افترقا في التأثير، فإن تلك أثرت الموت، وهذه أثرت الغشي لأنه لا موت بعد البعث، وهي الثالثة من النفخات {فصعق} أي مغشياً عليه {من في السماوات} ولما كان المقام التهويل، وكان التصريح أهول، أعاد الفاعل بلفظه فقال: {ومن في الأرض}. ولما كان منهم من لا يصعق ليعرف دائماً أنه في كل فعل من أفعاله مختار قادر جبار، استثناه فقال: {إلا من شاء الله} أي الذي له مجامع العظمة ومعاقد العز، فيجعل الشيء الواحد هلاكاً لقوم دون قوم، وصعقاً لقوم دون قوم، يجعل ذلك الذي كان به الهلاك به الحياة وذلك الذي كان به الغشي به الإفاقة وإن كان بالنسبة إليهم على حد سواء، إعلاماً بأن الفاعل لما يريد لا الأثر، قيل: المستثنون الشهداء وقيل: غيرهم {ثم نفخ فيه أخرى} أي نفخة ثانية من هذه، وهي رابعة من النفخة المميتة، ودل على سرعة تأثيرها بالفجاءة في قوله: {فإذا هم قيام} أي قائمون كلهم {ينظرون *} أي يقبلون أبصارهم أو ينتظرون ما يأتي بعد ذلك من أمثاله من دلائل العظمة، وهاتان النفختان هما المرادتان في حديث تخاصم اليهود مع المسلم الذي لطم وجهه، وفي آخره: «يصعق الناس يوم القيامة فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش فلا أدري أفاق قبلي أو جوزي بصعقة الطور»- وقد رواه البخاري في الخصومات في موضعين، وفي أحاديث الأنبياء في موضعين، وفي الرقاق وفي التوحيد ومسلم في الفضائل، وأبو داود في السنة، والنسائي في التفسير والنعوت، وبتفصيل رواياته وجمع ألفاظها يعلم أن ما ذكرته هو المراد روى البخاري ومسلم في أحاديث الأنبياء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما يهودي يعرض سلعة له- وقال البخاري: سلعته- أعطى بها شيئاً كرهه أو لم يرضه، قال: لا والذي اصطفى موسى على البشر! فسمعه رجل من الأنصار فلطم- وقال البخاري: فقام فلطم وجهه، قال: تقول: والذي اصطفى موسى على البشر ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا القاسم إن لي ذمة وعهداً، وقال: فلان لطم وجهي،- وقال البخاري: فما بال فلان لطم وجهي؟- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم لطمت وجهه؟ قال: قال يا رسول الله» والذي اصطفى موسى على البشر «وأنت بين أظهرنا، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه، ثم قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث» - وفي رواية مسلم: «أو في أول من بعث- فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أحوسب بصعقة يوم الطور أو بعث قبلي ولا أقول: إن أحداً أفضل من يونس بن متى» وفي رواية للبخاري في تفسير الزمر: «إني من أول من يرفع رأسه بعد النفخة الآخرة فإذا أنا بموسى متعلق بالعرش فلا أدري أكذلك كان أم بعد النفخة» وفي رواية للبخاري في الخصومات والرقاق وأحاديث الأنبياء وهي لمسلم أيضاً قالا: استب رجلان: رجل من المسلمين ورجل من اليهود- وفي رواية لمسلم: رجل من اليهود ورجل من المسلمين- فقال المسلم: والذي اصفطى محمداً صلى الله عليه وسلم على العالمين، قال البخاري في كتاب التوحيد وأحاديث الأنبياء: في قسم يقسم به، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى على العالمين، قال البخاري: فغضب المسلم عند ذلك فلطم وجه اليهودي، وقال مسلم وكذلك البخاري في التوحيد والخصومات وأحاديث الأنبياء: فرفع المسلم يده عند ذلك فلطم وجه اليهودي، فذهب اليهودي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما كان من أمره وأمر المسلم، قال البخاري في الخصومات: فدعا النبي صلى الله عليه وسلم المسلم فسأله عن ذلك فأخبره- ثم اتفقا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون» قال البخاري في الرقاق والخصومات وأحاديث الأنبياء ونسخة في التوحيد: «يوم القيامة فأكون في أول من يفيق»، وفي رواية له في الخصومات؛ «فأصعق معهم»، وفي رواية له في الرقاق وفي رواية في التوحيد وهي رواية لمسلم وأبي داود: «فأكون أول من يفيق فإذا موسى باطش بجانب العرش»، وقال أبو داود: «في جانب العرش، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله»، وفي رواية: «فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أو اكتفى بصعقة الطور» ، وفي رواية للبخاري في أحاديث الأنبياء: «فلا أدري أكان فيمن صعق فأفاق أو كان ممن استثنى الله»- ولم يذكر قبلي وروى الحديث الترمذي في تفسير سورة الزمر وابن ماجه في الزهد: قال: قال اليهودي، وقال ابن ماجه: رجل من اليهود بسوق المدينة: والذي اصطفى وموسى على البشر فرفع رجل من الأنصار يداً فصك بها وجهه- وقال ابن ماجه: فلطمه- قال: تقول هذا وفينا نبي الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ونفخ في الصور»- وقال ابن ماجه: تقول هذا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «قال الله تعالى: ونفخ في الصور- فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، فأكون أول من رفع رأسه فإذا موسى آخذ»- وقال ابن ماجه: «فإذا أنا بموسى آخذ- بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أرفع رأسه قبلي أم كان ممن استثنى الله، ومن قال: أنا خير من يونس بن متى فقد كذب»، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح. وفي رواية للبخاري في الرقاق: «يصعق الناس حين يصعقون، فأكون أول من قام، فإذا موسى آخذ بالعرش، فما أدري أكان فيمن صعق»، قال: ورواه أبو سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه، وللبخاري في الخصومات عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: «بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس جاء يهودي فقال: يا أبا القاسم! ضرب وجهي رجل من أصحابك، قال: من؟ قال: رجل من الأنصار، قال: ادعوه، قال: ضربته؟ قال: سمعته بالسوق يحلف» والذي اصطفى موسى على البشر «قلت: أي خبيث على محمد، فأخذتني غضبة ضربت وجهه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تخيروا بين الأنبياء، فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من تنشق عنه الأرض»- وفي رواية في أحاديث الأنبياء: «فأكون أول من يفيق- فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أكان فيمن صعق أم حوسب بصعقته الأولى»، وفي رواية في أحاديث الأنبياء: «فلا أدري أفاق قبلي أو حوسب بصعقة الطور» والله أعلم- هذا ما رأيته من ألفاظ الحديث في الكتب الستة، وأما معنى صعق فإنه صاح ومات فجأة أو غشي عليه، قال في القاموس: الصاعقة الموت وكل عذاب مهلك وصيحة العذاب، وصعق كسمع صعقاً ويحرك وصعقة وتصعاقاً: غشي عليه. والصعق محركة: شدة الصوت، وككتف: الشديد الصوت، وقال عبد الحق في الواعي: الأزهري: الصاعقة- يعني بالفتح- وأصعقتهم- إذا أصابتهم فصعقوا وصعقوا، ومنه حديث الحسن: ينتظر بالمصعوق ثلاثاً ما لم يخافوا عليه نتناً- يعني الذي مات فجأة، قال: والصاعقة مصدر جاء على فاعلة، تقول: سمعت صاعقة الرعد وثاغية الشاء، وقوله: {وخر موسى صعقاً} [الأعراف: 143] أي مغشياً عليه، دل على ذلك قوله سبحانه {فلما أفاق} إنما يقال: أفاق من العلة والغشية وبعث من الموت، قال: وجملة الصاعقة الصوت مع النار، وقال أبو عبد الله يعني القزاز: الصعق هو أن يسمع الإنسان صوت الهدة الشديدة فيصعق لذلك عقله، واشتقاق الصاعقة من هذا، سميت صاعقة لشدة صوتها وتقول: إنه لصعق، أي شديد الصوت، وكذا هو صعاق- انتهى. فتحرر من هذا أن الصعق يطلق على الموت فجأة، وعلى الغشي كذلك، وأن الإفاقة لا تكون إلا عن غشي لا عن موت، فعلم أن الصعقة في هذه الآية إنما هي غشي لأن الثانية عنها إفاقة، وأيضاً فمن الأمر المحقق أنه لا يموت أحد من أهل البرزخ فكيف بالأنبياء عليهم السلام، فالصواب حمل الصعقة المذكورة في الحديث على الغشي أو ما يشبهه، ويؤيده التجويز لأن تكون صعقة الطور جزاء عنها، وعلى تقدير أن تكون غشياً إن قلنا إنه يكون بنفخة الإماتة يلزم عليه أن لا يكون للغشي ولا لعدمه مدخل في الشك في أن موسى عليه السلام أفاق قبل أو لم يحصل له غشي أصلاً، لأن الذي يكون به بطشه بالعرش- وهو بروحه وجسه- إنما هو البعث من الموت لا الإفاقة من الغشي ولا عدم الغشي قبل البعث، فالذي يوضح الأمر ولا يدع فيه لبساً أن يكون ذلك بعد البعث، وتكون حينئذ النفخات أربعاً: الأولى لإماتة الأحياء، الثانية لإحياء جميع الموتى، وهاتان هما المذكورتان في سورة يس، ولذلك لما ذكرهما صرح في أمرهما بما لا يحتمل غيره {ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون} الثالثة لابتدائهم بعد البعث بالهول الشديد، والحال يقتضيه لأن ذلك اليوم يوم الأهوال والارعاب والارهاب، وإظهار العظمة والجلال لتقطيع الأسباب، والذي يدل عليه في هذا الحديث قوله صلى الله عليه وسلم في كثير من رواياته: «فإن الناس يصعقون يوم القيامة» فإن يوم القيامة اسم للوقت الذي أوله البعث وآخره تكامل دخول كل فريق إلى داره ومحل استقراره، وأما صعقة الموت فإنها في دار الدنيا وهي للإنامة لا للإقامة، ويضعف حمله على ما قبل البعث الروايات الصحيحة الجازمة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أول من تنشق عنه الأرض، وما حكاه الكرماني من الإجماع على ذلك ولا فخر فيه إلا بحصول البعث لا بإظهار الجسد من غير بعث، فهذا الجزم ينافي ذلك الشك، فإذا كان المراد بما في الحديث الغشي كانت نفخة أخرى للإيقاظ منه، وهاتان المرادتان بما في هذه السورة كما في رواية السورة كما في رواية الترمذي وما في النمل، ولذلك عبر عنها بالفزع، ويؤيد ذلك التعبير في رواية البخاري في التفسير بالنفخة الآخرة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي جوامع الكلم، واختصر له الكلام اختصاراً، ولو أنهما نفختان فقط كان التعبير بالآخرة قاصراً عما تفيده الثانية مع المساواة في عدة الحروف، وهو مما لا يظن ببليغ، فكيف بأبلغ الخلق المؤيد بروح القدس صلى الله عليه وسلم فكان العدول عن الثانية إلى الآخرة مفيداً أنها أربع، ولعل ذلك معنى {أمتنا اثنتين وأحيينا اثنتين} [غافر: 11] وسميت إماتة لشدة الغشي بها لعظم أمرها ومعنى زلزلة الساعة التي تسكر، ويؤيده التعبير عن القيام منها بالإفاقة لا بالبعث، ولا يعكر على هذا شيء إلا رواية البخاري في الخصومات: «فأكون أول من تنشق عنه الأرض فإذا أنا بموسى»- إلى آخره، فالظاهر أن راويها وهم، أو روي بالمعنى فما وفى بالغرض، والراجح روايات من قالوا: «فأكون أول من يفيق»- بالكثرة وبزوال الإشكال، هذا ما كان ظهر لي في النظر في المعنى وتطبيق الآيات والأحاديث عليه، ثم رأيت شيخنا حافظ عصره أحمد بن علي بن حجر الكناني العسقلاني المصري رحمه الله نقل ما جمعت به بين الروايات في كتاب الأنبياء من شرحه للبخاري عن القاضي عياض فقال: وقال عياض: يحتمل أن يكون المراد صعقة فزع بعد البعث حين تنشق السماء والأرض. وأقره على ذلك ثم نقل عن ابن حزم عين ما قلته في النفخات فقال ما نصه: تكميل: زعم ابن حزم أن النفخات يوم القيامة أربع: الأولى نفخة إماتة يموت فيها من بقي في الأرض، حياً، ثانيها نفخة إحياء فيقوم كل ميت، والثالثة نفخة فزع وصعق يفيقون منها كالمغشي عليهم، لا يموت منها أحد، والرابعة إفاقة من ذلك الغشي، ثم رده شيخنا بأن الصعقات أربع، ولا يستلزم كون النفخات أكثر من اثنتين، وذلك أنه ينفخ في الصور النفخة الأولى فيموت من كان حياً ويغشى على من كان ميتاً، فهاتان صعقتان في النفخة الأولى، وينفخ النفخة الثانية فيفيق من كان مغشياً عليه ويحيى من كان ميتاً، فهاتان اثنتان في النفخة الثانية، وهذا الرد مردود لمن حقق ما قلته بأدنى تأمل، ويلزم عليه أن يكون أصفياء الله أشد حالاً وفزعاً ممن تقوم عليهم الساعة وهم شر عباد الله، والعجب أن الذي رده على ابن حزم سلّمه لعياض- والله الموفق.
{وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)} ولما ذكر إقامتهم بالحياة التي هي نور البدن، أتبعه إقامتهم بنور جميع الكون ظاهراً بالضياء الحسي، وباطناً بالحكم على طريق العدل الذي هو نور الوجود الظاهري والباطني على الحقيقة كما أن ظلم ظلامة كذلك فقال: {وأشرقت} أي أضاءت إضاءة عظيمة مالت بها إلى الحمرة {الأرض} أي التي أوجدت لحشرهم، وعدل الكلام عن الاسم الأعظم إلى صفة الإحسان لغلبة الرحمة لا سيما في ذلك اليوم فإنه لا يدخل أحد الجنة إلا بها فقال: {بنور ربها} أي الذي رباها بالإحسان إليها بجعلها محلاًّ للعدل والفضل، لا يكون فيها شيء غير ذلك أصلاً، وذلك النور الذي هو شيء واحد يبصر به قوم دون آخرين كما كانت النفخة تارة للهلاك وتارة للحياة. ولما كان العلم هو النور في الحقيقة، وكان الكتاب أساس العلم وكان لذلك اليوم من العظمة ما يفوت الوصف ولذلك كذب به الكفار أتى فيما يكون فيه بإذنه بصيغة المجهول على طريقة كلام القادرين إشارة إلى هوانه وأنه طوع أمره لا كلفة عليه في شيء من ذلك وكذا ما بعده من الأفعال زيادة في تصوير عظمة اليوم بعظمة الأمر فيه فقال: {ووضع الكتاب} أي الذي أنزل إلى كل أمة لتعمل به. ولما كان الأنبياء أعم من المرسلين، وكان للنبي وهو المبعوث ليعمل من أمره أن يأمر بالمعروف، وقد يتبعه من أراد الله به الخير، وكان عدتهم مائة ألف وأربعة وعشرين ألفاً، وهي قليلة جداً بالنسبة إلى جميع الناس، عبر بهم دون المرسلين وبجمع القلة فقال: {وجاء بالنبيين} للشهادة على أممهم بالبلاغ. ولما كان أقل ما يكون الشهود ضعف المكلفين، عبر بجمع الكثرة فقال: {والشهداء} أي الذين وكلوا بالمكلفين فشاهدوا أعمالهم فشهدوا بها وضبطوها فأصلت الأصول وصورت الدعاوى وأقيمت البينات على حسبها من طاعة أو معصية، ووقع الجزاء على حسب ذلك، فظهر العدل رحمة للكفار، وبان الفضل رحمة للمسلمين {وقضى بينهم} أي بين العباد الذين فعل ذلك كله لأجلهم، ولما كان السياق ظاهراً في عموم الفضل عدلاً وفضلاً كما يأتي التنبيه عليه قال: {بالحق} بأن يطابق الواقع من المثوبات والعقوبات ما وقع الخبر به في الكتب على ألسنة الرسل. ولما كان المراد كمال الحق باعتبار عمومه لجميع الأشخاص والأعمال وكان ربما طرقه احتمال تخصيص ما، أزال ذلك بقوله: {وهم} أي باطناً وظاهراً {لا يظلمون *} أي لا يتجدد لهم ظلم في وقت أصلاً، فلا يزادون في جزاء السيئة على المثل شيئاً ولا ينقصون في جزاء الحسنة عن العشر شيئاً. ولما كان ذلك ربما كان بالنسبة إلى ما وقع فيه الحكم، وليس نصاً في شمول الحكم لكل عمل، نص عليه بقوله، ذاكراً الوفاء والعمل لاقتضاء السياق ذلك بذكر الكتاب وما في حيزه من النبيين والشهداء والقضاء الحق، وذلك كله أليق بذكر العمل المؤسس على العلم، والوفاء الذي هو الركن الأعظم في الحق ومساق العلم، والعلم والوفاء أوفق لجعل العمل نفسه هو الجزاء بأن يصور بما يستحقه من الصور المليحة إن كان ثواباً والقبيحة إن كان عقاباً، والفرق بينه وبين العقل المؤسس على الشهوة وقوة الداعية: {ووفيت كل نفس} ولما كانت التوفية في الجزاء على غاية التحرير والمبالغة في الوفاء والمشاكلة في الصورة والمعنى، جعل الموفي نفس العمل فقال: {ما عملت} أي من الحسنات، لذلك عبر بالعمل الذي لا يكون إلا مع العلم وأفهم الختام تقدير «والله أعلم بما يعملون». ولما كان المراد بالشهداء إقامة الحقوق على ما يتعارفه العباد وكان ذلك ربما أوهم نقصاً في العلم قال: {وهو أعلم} أي من العاملين والشهداء عليهم {بما يفعلون *} أي مما عمل به بداعية من النفس سواء كان مع مراعاة العلم أو لا. فالآية من الاحتباك: ذكر ما عملت أولاً يدل على ما فعلت ثانياً، وذكر ما يفعلون ثانياً يدل عليه ما يفعلون أولاً، وسره أن ما ذكر أوفق للمراد من نفي الظلم على حكم الوعد بالعدل والفضل لأن فيه الجزاء على كل ما بني على علم، وأما المشتهي فما ذكر أنه يجازى عليه بل الله يعلمه. ولما كان الأغلب على هذه المقامات التحذير، قدم في هذه التوفية حال أهل الغضب فقال: {وسبق} أي بأمر يسير من قبلنا بعد إقامة الحساب سوقاً عنيفاً {الذين كفروا} أي غطوا أنوار عقولهم، فالتبست عليهم الأمور فضلوا {إلى جهنم} أي الدركة التي تلقاهم بالعبوسة كما تلقوا الأوامر والنواهي والقائمين بها بمثل ذلك، فإن ذلك لازم لتغطية العقل {زمراً} أي جماعات في تفرقة بعضهم على إثر بعض- قاله أبو عبيد- أصنافاً مصنفين، كل شخص مع من يلائمه في الطريقة والزمرة، مأخوذة من الزمر وهو صوت فيه التباس كالزمر المعروف لأن ذلك الصوت من لازم الجمع. ولما كان إغلاق الباب المقصود عن قاصده دالاًّ على صغاره، دل على أن أمرهم كذلك بقوله ذاكراً غاية السوق: {حتى إذ جاءوها} أي على صفة الذل والصغار، وأجاب «إذا» بقوله: {فتحت أبوابها} أي بولغ كما يفعل في أبواب السجن لأهل الجرائم بعد تكاملهم عندها في الإسراع في فتحها ليخرج إليهم ما كان محبوساً بإغلاقها من الحرارة التي يلقاهم ذكاؤها وشرارها على حالة هي أمر من لقاء البهام التي اختاروها في الدنيا على تقبل ما خالف أهويتهم من حسن الكلام. ولما كان المصاب ربما رجا الرحمة، فإذا وجد من يبكته كان تبكيته أشد عليه مما هو فيه قال: {وقال لهم خزنتها} إنكاراً عليهم وتقريعاً وتوبيخاً: {ألم يأتكم رسل} ولما كان قيام الحجة بالمجانس أقوى قال واصفاً لرسل: {منكم} أي لتسهل عليكم مراجعتهم. ولما كانت المتابعة بالتذكير أوقع في النفس قال آتياً بصفة أخرى معبراً بالتلاوة التي هي أنسب لما يدور عليه مقصد السورة من العبادة لما للنفوس من النقائص الفقيرة إلى متابعة التذكير: {يتلون} أي يوالون {عليكم آيات} ولما كان أمر المحسن أخف على النفس فيكون أدعى إلى القبول قالوا: {ربكم} أي بالبشارة إن تابعتم. ولما كان الإنذار أبلغ في الزجر قالوا: {وينذرونكم لقاء يومكم} ولما كانت الإشارة أعلى في التشخيص قالوا: {هذا} إشارة إلى يوم البعث كله، أي من الملك الجبار إن نازعتم، فالآية من الاحتباك: ذكر الرب أولاً دلالة على حذف الجبروت ثانياً والإنذار ثانياً دليلاً على البشارة أولاً {قالوا بلى} أي قد أتونا وتلوا علينا وحذرونا. ولما كان عدم إقبالهم على الخلاص مما وقعوا فيه مع كونه يسيراً من أعجب العجب، بينوا موجبه بقولهم: {ولكن حقت} أي وجبت وجوباً يطابقه الواقع، لا يقدر معه على الانفكاك عنه {كلمة العذاب} أي التي سبقت في الأزل علينا- هكذا كان الأصل، ولكنهم قالوا: {على الكافرين *} تخصيصاً بأهل هذا الوصف وبياناً لأنه موجب دخولهم وهو تغطيتهم للأنوار التي أتتهم بها الرسل. ولما فرغوا من إهانتهم بتبكيتهم، أنكوهم بالأمر بالدخول، وعبر بالمبني للمفعول إشارة ألى أنهم وصلوا إلى أقصى ما يكون من الذل بحيث إنهم يمتثلون قول كل قائل جل أو قل، فقيل في جواب من كأنه قال: ماذا وقع بعد هذا التقريع؟: {قيل} أي لهم جواباً لكلامهم: {ادخلوا أبواب جهنم} أي طبقاتها المتجهمة لداخليها. ولما كان الإخبار بالخلود حين الدخول أوجع لهم قالوا: {خالدين} أي مقدرين الخلود {فيها} ولما كان سبب كفرهم بالأدلة هو التكبر، سبب عن الأمر بالدخول قوله معرى عن التأكيد لأنه يقال في الآخرة ولا تكذيب فيها يقتضي التأكيد ولم يتقدم منهم هنا كذب كالنحل بل اعتراف وتندم {فبئس مثوى} أي منزل ومقام {المتكبرين *} أي الذين أوجب تكبرهم حقوق كلمة العذاب عليهم، فلذلك تعاطوا أسبابها.
{وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)} ولما ذكر أحوال الكافرين، أتبعه أحوال أضدادهم فقال: {وسيق} وسوقهم إلى المكان الطيب يدل على أن موقفهم كان طيباً لأن من كان في أدنى نكد فهيئ له مكان هنيء لا يحتاج في الذهاب إليه إلى سوق، فشتان ما بين السوقين! هذا سوق إكرام، وذاك سوق إهانة وانتقام، وهذا لعمري من بدائع أنواع البديع، وهو أن يأتي سبحانه بكلمة في حق الكفار فتدل على هوانهم بعقابهم، ويأتي بتلك الكلمة بعينها وعلى هيئتها في حق الأبرار فتدل على إكرامهم بحسن ثوابهم، فسبحان من أنزله معجز المباني، متمكن المعاني، عذب الموارد والمثاني. ولما كان هذا ليس لجميع السعداء بل للخلص منهم، دل على ذلك بقوله: {الذين اتقوا} أي لا جميع المؤمنين {ربهم} أي الذين كلما زادهم إحساناً زادوا له هيبة، روى أحمد وأبو يعلى وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يوماً كان مقداره خمسين ألف سنة، فقيل: ما أطول هذا اليوم؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون عليه أخف من صلاة مكتوبة» وروى الطبراني وابن حبان في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تجتمعون يوم القيامة»- فذكر الحديث حتى قال: «قالوا: فأين المؤمنون يومئذ؟ قال: توضع لهم كراسي من نور ويظلل عليهم الغمام يكون ذلك اليوم أقصر على المؤمنين من ساعة من نهار» ويمكن أن يكون السوق إشارة إلى قسر المقادير للفريقين على الأفعال التي هي أسباب الدارين {إلى الجنة زمراً} أهل الصلاة المنقطعين إليها المستكثرين منها على حدة، وأهل الصوم كذلك- إلى غير من الأعمال التي تظهر آثارها على الوجوه. ولما ذكر السوق، ذكر غايته بقوله: {حتى إذا جاءوها} ولما كان إغلاق الباب عن الآتي يدل على تهاون به، وفي وقوفه إلى أن يفتح له نوع هوان قال: {وفتحت} أي والحال أنها قد فتحت {أبوابها} أي إكراماً لهم قبل وصولهم إليها بنفس الفتح وبما يخرج إليهم من رائحتها، ويرون من زهرتها وبهجتها، ليكون ذلك لهم سائقاً ثانياً إلى ما لم يروا مثله ولا رأوا عنه ثانياً. ولما ذكر إكرامهم بأحوال الدار، ذكر إكرامهم بالخزنة الأبرار، فقال عطفاً على جواب «إذا» بما تقديره: تلقتهم خزنتها بكل ما يسرهم: {وقال لهم خزنتها} أي حين الوصول: {سلام عليكم} تعجيلاً للمسرة لهم بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها. ولما كانت داراً لا تصلح إلا للمطهرين قالوا: {طبتم} أي صلحتم لسكناها، فلا تحول لكم عنها أصلاً، ثم سببوا عن ذلك تنبيهاً على أنها دار الطيب، فلا يدخلها إلا مناسب لها، قولهم: {فادخلوها} فأنتج ذلك {خالدين *} ولعل فائدة الحذف لجواب «إذا» أن تذهب النفس فيه من الإكرام كل مذهب وتعلم أنه لا محيط به الوصف، ومن أنسب الأشياء أن يكون دخولهم من غير مانع من إغلاق باب أو منع بواب، بل مأذوناً لهم مرحباً بهم إلى ملك الأبد. ولما كان التقدير: فدخلوها، عطف عليه قوله: {وقالوا} أي جميع الداخلين: {الحمد} أي الإحاطة بأوصاف الكمال، وعدلوا إلى الاسم الأعظم حثاً لأنفسهم على استحضار جميع ما تمكنهم معرفته من الصفات فقالوا: {لله} أي الملك الأعظم {الذي صدقنا وعده} في قوله تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً فطابق قوله الواقع الذي وجدناه في هذه الساعة {وأورثنا} كما وعدنا {الأرض} التي لا أرض في الحقيقة غيرها وهي أرض الجنة التي لا كدر فيها بوجه وفيها كل ما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين، بأن جعل حالنا فيها في تمام الملك وعدم التسبب في الحقيقة فيه حال الوارث الذي هو بعد موروثه ولا شيء بعده ولا منازع له حال كوننا {نتبوأ} أي نتخذ منازل هي أهل لمن خرج منها أن يشتهي العود إليها، وبينوا الأرض بقولهم في موضع الضمير: {من الجنة} أي كلها {حيث نشاء} لاتساعها فلا حاجة لأحد فيها أن ينازع أحداً في مكان أصلاً، ولا يشتهي إلا مكانه. ولما كانت بهذا الوصف الجليل، تسبب عنه مدحها بقوله: {فنعم} أجرنا- هكذا كان الأصل، ولكنه قال: {أجر العاملين *} ترغيباً في الأعمال وحثاً على عدم الاتكال. ولما ذكر سبحانه الذين ركب فيهم الشهوات، وما وصلوا إليه من المقامات، أتبعهم أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات، فقال صارفاً الخطاب لعلو الخبر إلى أعلى الخلق أنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره: {وترى} معبراً بأخص من الإبصار الأخص من النظر كما بين في البقرة في قوله تعالى {وإن القوة لله جميعاً} [البقرة: 165] {الملائكة} القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق {حافين} أي محدقين ومستديرين وطائفين في جموع لا يحصيها إلا الله. من الخف وهو الجمع، والحفة وهو جماعة الناس، والأعداد الكثيرة، وهو جمع حاف، وهو الواحد من الجماعة المحدقة. ولما كان عظيم الشيء من عظم صاحبه، وكان لا يحيط بعظمة العرش حق الإحاطة إلا الله تعالى، أشار إلى ذلك بإدخال الجاز فقال: {من حول العرش} أي الموضع الذي يدار فيه به ويحاط به منه، من الحول وهو الإحاطة والانعطاف والإدارة. محدقين ببعض أحفته أي جوانبه التي يمكن الحفوف بها بالقرب منها يسمع لحفوفهم صوت بالتسبيح والتحميد والتقديس والاهتزاز خوفاً من ربهم، فإدخال {من} يفهم أنهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله، لا يملؤون ما حوله، حال كونهم {يسبحون بحمد} وصرف القول إلى وصف الإحسان مدحاً لهم بالتشمير لشكر المنعم وتدريباً لغيرهم فقال: {ربهم} أي يبالغون في التنزيه عن النقص بأن يتوهم متوهم أنه محتاج إلى عرش أو غيره، وأن يحويه مكان متلبسين بإثبات الكمال للمحسن إليهم بإلزامهم بالعبادة من غير شاغل يشغلهم، ولا منازع من شهوة أو حظ يغفلهم، تلذذاً بذكره وتشرفاً بتقديسه، ولأن حقه إظهار تعظميه على الدوام كما أنه متصل الإنعام. ولما تقدم ذكر الحكم بين أهل الشهوات بما برز عليهم من الشهادات، ذكر هنا الحكم بينهم وبين الملائكة الذين فاضوا في أصل خلقهم بقولهم {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء} الآية فقال: {وقضى بينهم} أي بين أهل الشهوات وأهل العصمة والثبات. ولما كان السياق عاماً في الترغيب والترهيب عدلاً وفضلاً، بخلاف سياق سورة يونس عليه السلام، قال: {بالحق} بأن طوبق بما أنزلنا فيهم في الكتب التي وضعناها لحسابهم الواقع، فمن طغى منهم أسكناه لظى بعدلنا، ومن اتقى نعمناه في جنة المأوى بفضلنا، لجهادهم ما فيهم من الشهوات حتى ثبتوا على الطاعات، مع ما ينزعهم من الطبائع إلى الجهالات، وأما الملائكة فأبقيناهم على حالهم في العبادات: {وقيل} أي من كل قائل: آخر الأمور كلها {الحمد} أي الإحاطة بجميع أوصاف الكمال، وعدل بالقول إلى ما هو حق بهذا المقام فقال: {لله} ذي الجلال والإكرام، علمنا ذلك في هذا اليوم عمل اليقين كما كنا في الدنيا نعلمه علم اليقين. ولما كان ذلك اليوم أحق الأيام بمعرفة شمول الربوبية لاجتماع الخلائق وانفتاح البصائر وسعة الضمائر، قال واصفاً له سبحانه بأقرب الصفات إلى الاسم الأعظم: {رب العالمين *} أي الذي ابتدأهم، أولاً من العدم وأقامهم ثانياً بما رباهم به من التدبير، وأعادهم ثالثاً بعد إفنائهم بأكمل قضاء وتقدير، وأبقاهم رابعاً لا إلى خير، فقد حقق وعده كما أنزل في كتابه وصدق وعيده لأعدائه كما قال في كتابه، فتحقق أنه تنزيله، فقد ختم الأمر بإثبات الكمال باسم الحمد عند دخول الجنان والنيران كما ابتدأ به عند ابتداء الخلق في أول الإنعام، فله الإحاطة بالكمال في أن الأمر كما قال كتابه على كل حال، فقد انطبق آخرها على أولها بأن الكتاب تنزيله لمطابقة كل ما فيه للواقع عندما يأتي تأويله، وبأن الكتاب الحامل على التقوى المسببة للجنة أنزل للإبقاء الأول، فمن أتبعه كان له سبباً للإبقاء الثاني، وهذا الآخر هو عين أول سورة غافر فسبحان من أنزله معجزاً نظامه، فائتاً القوى أول كل شيء منه وختامه، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وأهل بيته الطيبين الطاهرين وصحابته أجمعين.
|